تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 296 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 296

296 : تفسير الصفحة رقم 296 من القرآن الكريم

** وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوَاْ أَنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَأَنّ السّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رّبّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىَ أَمْرِهِمْ لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مّسْجِداً
يقول تعالى: {وكذلك أعثرنا عليهم} أي أطلعنا عليهم الناس {ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيه} ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة. وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأجساد, فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك, وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء لهم ليأكلوه, تنكر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة, وذكروا أن اسمها دقسوس, وهو يظن أنه قريب العهد بها, وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل وأمة بعد أمة, وتغيرت البلاد ومن عليها, كما قال الشاعر:
أما الديار فإنها كديارهموأرى رجال الحي غير رجاله
فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها, ولا يعرف أحداً من أهلها: لا خواصها ولا عوامها, فجعل يتحير في نفسه ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم, ويقول: والله ما بي شيء من ذلك, وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال: إن تعجيل الخروج من ههنا لأولى لي, ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام, فدفع إليه ما معه من النفقة, وسأله أن يبيعه بها طعاماً, فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها, فدفعها إلى جاره, وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً, فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة, لعله وجدها من كنز وممن أنت ؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة, وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس, فنسبوه إلى الجنون, فحملوه إلى ولي أمرهم فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره, وهو متحير في حاله وما هو فيه, فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف ـ ملك البلد وأهلها ـ حتى انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي فدخل, فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه, وأخفى الله عليهم خبرهم, ويقال بل دخلوا عليهم ورأوهم, وسلم عليهم الملك واعتنقهم, وكان مسلماً فيما قيل, واسمه تيدوسيس, ففرحوا به وآنسوه بالكلام, ثم ودعوه وسلموا عليه, وعادوا إلى مضاجعهم, وتوفاهم الله عز وجل, فالله أعلم.
قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة, فمروا بكهف في بلاد الروم, فرأوا فيه عظاماً فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف, فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلثمائة سنة, ورواه ابن جرير, وقوله: {وكذلك أعثرنا عليهم} أي كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم, أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان {ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم} أي في أمر القيامة, فمن مثبت لها ومن منكر, فجعل اللهظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم {فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم} أي سدوا عليهم باب كهفهم, وذروهم على حالهم {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجد} حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين (أحدهما) أنهم المسلمون منهم. (والثاني) أهل الشرك منهم, فالله أعلم, والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ, ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» يحذر ما فعلوا, وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق, أمر أن يخفى عن الناس, وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده, فيها شيء من الملاحم وغيرها.

** سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رّبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِم مّا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً
يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف, فحكى ثلاثة أقوال, فدل على أنه لا قائل برابع, ولما ضعف القولين الأولين بقوله: {رجماً بالغيب} أي قولاً بلا علم, كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه, فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد. ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: {وثامنهم كلبهم} فدل على صحته, وأنه هو الواقع في نفس الأمر. وقوله: {قل ربي أعلم بعدتهم} إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى, إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم, لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا.
وقوله: {ما يعلمهم إلا قليل} أي من الناس. قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل, كانوا سبعة. وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول أنا ممن استثنى الله عز وجل ويقول عدتهم سبعة, فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة, وهو موافق لما قدمناه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق. قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله, وكانوا ثمانية نفر: مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم, ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش, هكذا وقع في هذه الرواية, ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق أو من بينه وبينه, فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة, وهو ظاهر الاَية, وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران, وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته, والله أعلم, فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب, وقد قال تعالى: {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهر} أي سهلاً هيناً, فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة {ولا تستفت فيهم منهم أحد} أي فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب, أي من غير استناد إلى كلام معصوم, وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه, فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.

** وَلاَ تَقْولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىَ أَن يَهْدِيَنِ رَبّي لأقْرَبَ مِنْ هَـَذَا رَشَداً
هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل, علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون, كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ـ وفي رواية: تسعين امرأة, وفي رواية: مائة امرأة ـ تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله, فقيل له ـ وفي رواية قال له الملك: قل إن شاء الله, فلم يقل, فطاف بهم فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والذي نفسي بيده, لو قال إن شاء الله لم يحنث, وكان دركاً لحاجته» وفي رواية «ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين» وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الاَية في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف غداً أجيبكم» فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً, وقد ذكرناه بطوله في أول السورة, فأغنى عن إعادته.
وقوله: {واذكر ربك إذا نسيت} قيل معناه إذا نسيت الاستثناء, عند ذكرك له, قاله أبو العالية والحسن البصري, وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال: له أن يستثني ولو إلى سنة, وكان يقول: {واذكر ربك إذا نسيت} ذلك, قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد ؟ فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم يرى ذهب كسائي هذا, ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به. ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة, أي إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء لله وذكر ولو بعد سنة, فالسنة له أن يقول ذلك, ليكون آتياً بسنة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث, قاله ابن جرير رحمه الله, ونص على ذلك لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة, وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح, وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه, والله أعلم.) وقال عكرمة {واذكر ربك إذا نسيت} إذا غضبت وهذا تفسير باللازم. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن الحارث الجبلي, حدثنا صفوان بن صالح, حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد العزيز بن حصين, عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله * واذكر ربك إذا نسيت} أن تقول إن شاء الله, وروى الطبراني أيضاً عن ابن عباس في قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} الاستثناء فاستثن إذا ذكرت, وقال: هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه, ثم قال: انفرد به الوليد عن عبد العزيز بن الحصين, ويحتمل في الاَية وجه آخر وهو أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى, لأن النسيان منشؤه الشيطان, كما قال فتى موسى: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} وذكر الله تعالى يطرد الشيطان فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان, فذكر الله تعالى سبب للذكر, ولهذا قال: {واذكر ربك إذا نسيت} وقوله: {وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشد} أي إذا سئلت عن شيء لا تعلمه, فاسأل الله تعالى فيه, وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك, وقيل في تفسيره غير ذلك, والله أعلم.

** وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً * قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً
هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان, وأنه كان مقداره ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية, وهي الثلثمائة سنة بالشمسية, فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين, فلهذا قال: بعد ثلثمائة وازدادوا تسعاً. وقوله: {قل الله أعلم بما لبثو} أي إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء, بل قل في مثل هذا {الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض} أي لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه, وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في قوله: {ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين} الاَية, هذا قول أهل الكتاب, وقد ردّه الله تعالى بقوله: {قل الله أعلم بما لبثو} قال: وفي قراءة عبد الله وقالوا: {ولبثو}, يعني أنه قاله الناس, وهكذا قال كما قال قتادة مطرف بن عبد الله, وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر, فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلثمائة سنة من غير تسع, يعنون بالشمسية, ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال: وازدادوا تسعاً, والظاهر من الاَية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم, وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله, ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة, ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور, فلا يحتج بها, والله أعلم.
وقوله: {أبصر به وأسمع} أي أنه لبصير بهم سميع لهم, قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح, كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه, وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود, وأسمعه لكل مسموع, لا يخفى عليه من ذلك شيء. ثم روي عن قتادة في قوله: {أبصر به وأسمع} فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع. وقال ابن زيد {أبصر به وأسمع} يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعاً بصيراً. وقوله: {ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحد} أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر, الذي لا معقب لحكمه, وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير, تعالى وتقدس.